دكتور مصطفى محمود ترك سماعته الطبية، ليغوص في رحلة لم يجرؤ الكثيرون على خوضها.

مصطفى محمود.. الطبيب الذي تخلى عن مهنته من أجل الأدب.
مصطفى محمود، طبيب وأديب وفيلسوف مصري، مد جسورا بين العلم والإيمان، تخلى عن الطب ليثري المكتبة العربية والإسلامية بروائع المصنفات في الفكر والفلسفة والاجتماع والأدب، وظل على مدى نصف قرن ظاهرة فكرية وأدبية تثير الجدل والتفكير والتأمل، وتدعو إلى حوارات في موضوعات مسكوت عنها.
بدأ في طلب العلم صغيرا، فقد التحق بالكتّاب في عمر لا يتجاوز الرابعة، إلا أنه لم يستطع الاستمرار، بسبب خوفه من الضرب الذي كان شائعا، والذي كان معاكسا لجو أسرته الوديعة المسالمة المليئة باللين، فكان يهرب ويجلس على سور حديقة حتى تنتهي ساعات الدراسة، ثم يعود إلى البيت.
ثم التحق بمدرسة “الشوكي”، حيث حفظ كثيرا من القرآن الكريم، ودرس اللغة العربية والحساب، ولكن ظهور العصا مرة أخرى منعه من التقدم في التحصيل العلمي، ودخل في صراع حاد ومرحلة من الرسوب استمرت 3 سنوات كي يتأقلم مع جو العنف ثم انتهت بنجاحه متجاوزا هذه الفترة متغلبا على خوفه.
وقد أظهر بعد هذه المرحلة تفوقا شديدا، وبدأت مواهبه تظهر، وأصبح متعلقا بجو الصوفية والموالد والأذكار والموسيقى المرافقة لها والناي، وبرزت لديه القدرة على ارتجال الحكايات وقص القصص على أقرانه، كما أطل في الأفق حبه للأسفار والارتحال، فاشترى ملابس كشافة، وكان منذ صغره يخرج للتخييم في مناطق قريبة.
ارتاد مدرسة طنطا الحكومية لإكمال دراسته الثانوية، وفي هذه المرحلة بدأت مواهبه الأدبية والشعرية بالتفتح، حيث كان يكتب القصص القصيرة والشعر والزجل، وبدأ بالعزف على الناي، كما أظهر ولعا شديدا بالعلوم والتجارب العلمية، فكان يجمع مصروفه اليومي ليشتري مواد كيميائية، ويقوم بتجاربه الخاصة.
التحق بكلية الطب في جامعة القاهرة، وزاد تعلقه بالعلوم وتطور إلى درجة قيامه بإنشاء معمل صغير في عام 1939 في منزل والده، فكان يصنع الصابون والعطور، ويقوم بتشريح الضفادع، ويستخدم الكلور في قتل الحشرات.
وأغرق نفسه في التجارب المتعلقة بالكهرباء والبطاريات، كما قام بتنفيذ اختراعات لأجهزة مع صديق له، كجهاز التقطير والميكروفون وجهاز لقياس النبض، فكان يصمم الجهاز وصديقه يقوم بتنفيذه باستخدام مواد بسيطة.
وقد اشتهر بين زملائه بلقب “المشرحجي”، نظرا لاهتمامه الشديد بتشريح جثث الموتى، وقد اشترى نصف جسد ودماغا ووضعها بالفورمالين لحفظها وعكف على دراستها في البيت، مما أدى إلى تحسسه من رائحة الفورمالين وإصابة جهازه التنفسي بالضرر.
وبقيت ميوله الموسيقية مرافقة لرحلته الدراسية، فتعلم في هذه الأثناء العزف على العود، وتعلم النوتات الموسيقية، وكان يشارك في الأفراح والحفلات، ولما رفضت عائلته هذه البيئة ترك المنزل وبدأ عمله في صحيفة “النداء” ليكسب رزقه.
أصيب بمرض في صدره في السنة الثالثة من دراسته الجامعية، مما اضطره إلى ترك العمل والدراسة والمكوث في مصحة لمدة 3 سنوات، هذه العزلة سلمته للقراءة والتفكير والتأمل، مما أثر في تكوينه الفكري، وبدأ بكتابة القصة القصيرة.
وبعد أن تعافى عاد من جديد إلى مقاعد الدراسة، والتي بدت له بعد هذه السنوات الثلاث قاسية وتحتاج إلى مجهود مضن، وكان أصدقاؤه قد تخرجوا وتركوا الجامعة، فركز على دراسته حتى استطاع أن يتخرج من كلية الطب – تخصص أمراض صدرية عام 1953.
مرحلة الشك
كان في بداياته الفكرية مبهورا بالعلم وحقائقه الملموسة، وكان يرى أن العلم يقدم له صورة عن الكون بالغة الإحكام والانضباط، ويمده بوسيلة يتصور بها الله بصورة مادية، وكان يتصور أن الله هو الطاقة الباطنة في الكون، التي تنظمه في منظومات جميلة من أحياء وجمادات وأرض وسماوات، وأصبح يرى أن الله في هذه النظرة هو الكل والمخلوقات تجلياته.
وهنا وقع في براثن نظرية وحدة الوجود ونظرية الطاقة الباطنة الخلاقة، وسيطرت عليه فكرة التناسخ، ويقول إن هذه المرحلة كانت مرحلة في الطريق الحق إلى الله، ويؤكد أنه لم يكن يوما ملحدا، ولم يشك في الحقيقة الإلهية أو وحدانية الله، ولكنها رحلة النظر والتطور التي هي من طبع المفكر، وهو الشك المؤدي للإيمان لا للعناد والجحود.
وفي هذه المرحلة التي أطلق عليها اسم المرحلة العلمانية، حاول في كتاباته أن يصور المجتمع من منظور واقعي صرف، وكان موقفه من المسلمات الدينية هو موقف الشك والمناقشة، وظهر هذا المنحى في كتاباته منذ بداياته الأدبية.
وبدأت الخطوة الأولى الحقيقية في حياته كأديب بعد العزلة التي قضاها في المصحة في سنواته الأخيرة من الجامعة، فقد كانت عبارة عن فرصة إجبارية للقراءة والتأمل والتفكر، وجعلته يغرق في السماوات الداخلية، ونمت لديه عين داخلية قادرة على الاستشفاف والوصول إلى أفكار كبيرة، وقد أدت هذه المحن إلى إعادة صياغة شخصيته كمفكر.
فبعد خروجه من المصحة قدم 30 قصة للعقّاد، والذي قدمها بدوره للزيات، فقام بنشر قصتين منها في “مجلة الرسالة” عام 1948، كما تعرف بعد ذلك على كامل الشناوي، الذي أتاح له المجال للكتابة في مؤسسة أخبار اليوم العريقة.
ومع مرور السنوات في ممارسته العمل كطبيب بدأت وقفته أمام الموت تكسر غروره العلمي، وبدا له عجز الفكر العلمي المادي عن تقديم تفسير مقنع في فهم لغز الموت ولغز الحياة، ومنذ عام 1958 إلى بداية الستينيات بدأ يعيد النظر في توجهه الفكري المادي، وكان كتاب “لغز الموت” بداية الطريق.
وبعد تعرضه لهبوط شديد في كريات الدم البيضاء بسبب تعرضه للأشعة أثناء فحص المرضى، اضطر إلى أخذ إجازة شهرين للتعافي، وفي هذه الإجازة أعاد النظر في عمله كطبيب، وكان محبطا من عدم قدرة الطب على علاج البشر علاجا حقيقيا، فقدم استقالته عام 1960 وتفرغ للكتابة، وبدأ من هنا الكاتب الأديب المتفرغ.
وهكذا جاءت مرحلة التحول الكامل إلى اليقين في الفترة ما بين عام 1970 و2009، فتوالت كتاباته في الإسلاميات مثل كتاب “القرآن محاولة لفهم عصري”، و”رحلتي من الشك إلى الإيمان” و”حوار مع صديقي الملحد”.

تأثر مصطفى محمود كثيرا بالفكر الصوفي وشيوخه، كالشيخ النفري وابن عربي وابن عطاء الله السكندري والإمام الغزالي، وفي أواخر السبعينيات من القرن الماضي كان الاتجاه الصوفي ظاهرا في كتاباته، ككتاب “الوجود والعدم” و”أسرار القرآن” و”القرآن كائن حي”.
أصدر كتابه ” الله والإنسان” في عام 1957، والذي هو عبارة عن مناقشة يشكك فيها بالمسلمات الدينية ويرفض كثيرا منها، وطرح فيها قضايا وموضوعات لم يعتد المجتمع على طرحها، مثل مسألة القضاء والقدر، والجنة والنار، والصواب والخطأ، وقد طرحها طرحا عقلانيا، لم يرق لبعض علماء الأزهر حينها، فعارضوه بمقالاتهم المتهمة إياه بالكفر والفسق، واستمر الضغط إلى أن منع الكتاب وسحب من الأسواق.
وقد قام الكاتب بعد ذلك بسنوات بإعادة النظر في الكتاب، ليس استجابة للضغوط، ولكن بسبب التحول الفكري الذي طرأ عليه، حيث بدأ يتجه إلى فكرة أن المنحى المادي لا يستطيع تفسير كل الظواهر.
ومرة أخرى تصدى له علماء الأزهر عند إصداره كتاب “القرآن محاولة لفهم عصري”، إذ لم يكن مسموحا لمن يتخرج من غير الكليات الدينية أن يفسر القرآن، فنشروا كتابات منتقدة له، وأحيل للجنة بهدف التنقيح، ومنع الكتاب لفترة، ثم سمح له بالخروج للنور.
وتأتي الأزمة الشهيرة المعروفة باسم “أزمة كتاب الشفاعة” والتي وقعت عام 2000 لتثير الكثير من الجدل حوله وحول أفكاره، وانفجرت الثورة في وجهه من جميع الاتجاهات، وكثرت الردود على كتابه، إلا أن هذه الأزمة مع كبر سنه وضعف صحته أدت إلى اعتزاله الحياة الاجتماعية، فامتنع عن الكتابة إلا من مقالات بسيطة في مجلة الشباب، وجريدة الأخبار.
سخّر مصطفى محمود جانبا مهما من جهوده في قضية اعتبرها تاريخية، تمركزت حول الخطر
الصهيوني، فأصدر 9 كتب بالإضافة لعدد من المقالات خلال فترة التسعينيات من القرن العشرين لبحث هذه القضية، وحذّر من الأطماع الصهيونية والتطبيع، ومن هذه المؤلفات كتاب “إسرائيل.. البداية والنهاية” و”على حافة الانتحار” و”إسرائيل النازية ولغة المحرقة”.
برنامج العلم والإيمان، هو برنامج تلفزيوني يعد الأكثر شهرة وانتشارا في عصره، والذي يعد موسوعة علمية وثقافية هائلة، اشتمل على مجالات متعددة: طبيعية وبيئية وجغرافية وطبية وفلكية وفي علوم النباتات والحشرات، حاول من خلاله بيان زيف النغمة التي شاعت في زمنه، والتي تدعي أن العلم مناقض للإيمان، وذلك عن طريق الأخذ بيد المشاهد مباشرة إلى الحقائق الرابطة بين العلم والإيمان.
وبلغ مجموع حلقات البرنامج حوالي 400 حلقة، كانت تبث حلقة في الأسبوع منذ بداية عام 1971 إلى عام 1999. وقد سعى الدكتور مصطفى محمود من خلاله إلى الحث على التأمل والتدبر والتفكر في قدرة الله سبحانه وتعالى، مستخدما أسلوبا علميا بسيطا يمكن لجميع المشاهدين فهمه على اختلاف طبقاتهم وثقافاتهم.
أصيب بجلطة في آخر أيام حياته، واستمرت رحلة علاجه عدة أشهر، حتى وافته المنية يوم السبت 31 أكتوبر/تشرين الأول 2009 في مدينة القاهرة بمصر، عن عمر ناهز 88 عاما، وشيع جثمانه من مسجده في جنازة مهيبة.
جميع اعمال الدكتور مصطفى محمود
بمؤسسة اخبار اليوم
https://www.facebook.com/thakafabookstores












