من لحوم تشاد الفاسدة لنصب بمليارات.. أسرار سقوط إمبراطورية الجمال في المعادي

قبل أيام قليلة، لم يكن أحد يتخيل أن الرجل الذي كان يتباهى بمشاريعه الضخمة، وصوره الفخمة داخل مكاتب مكيفة، سيقع بهذه السرعة في قبضة الأجهزة الأمنية لكن كما يقولون: “الدهاء أحيانًا لا يُنقذ صاحبه حين يقرر الطمع أن يكون شريكه”.
في شوارع القاهرة الهادئة ليلًا، كانت قوة من مباحث الأموال العامة تتحرك بسرية تامة. هدفها واضح: إلقاء القبض على رجل اعتاد أن يخفي نفسه خلف واجهة أنيقة من الشعارات الاستثمارية والمكاتب اللامعة.
ذلك الرجل هو “محمد. ا”، الذي اشتهر قبل سنوات بلقب “صاحب صفقة لحوم تشاد الفاسدة”، قبل أن يختفي من الأضواء ويعود هذه المرة بوجهٍ جديد، وجه المستثمر الناجح.
بدأت الحكاية منذ شهور، حين أسس “الجمال” وشقيقه “مصطفى” شركة حملت اسمًا يوحي بالثقة: الوطنية الكويتية للاستثمار. كانت الشركة تحمل تصريحًا رسميًا من هيئة الاستثمار، ما منحها غطاء قانونيًا يُخفي وراءه نشاطًا أكثر ظلامًا.
تحت هذا الغطاء، بدأ الأخوان في جمع الأموال من المواطنين، واعدينهم بعوائد مالية مرتفعة واستثمارات آمنة في مشروعات كبيرة. الإعلانات كانت فخمة، المكاتب أنيقة، والعروض مغرية، أما الأرباح الوهمية فكانت كفيلة بإسكات أي شكوك.
في البداية، التزم الجمال وشقيقه بسداد الأرباح الشهرية للمودعين، ليكسبا الثقة سريعًا. ومع الوقت، تضاعفت المبالغ التي تدفقت إلى الشركة، حتى تجاوزت 500 مليون جنيه.
لكن كالعادة، ما بُني على الخداع لا يدوم طويلًا. بدأت التأخيرات، ثم توقفت الأرباح تمامًا. الضحايا حاولوا التواصل، لكن الأبواب أُغلقت، والهواتف صمتت. ومع الأيام، تحولت الوعود إلى سراب، وبدأت البلاغات تتوالى على مكاتب مباحث الأموال العامة.
أكثر من 50 بلاغًا خلال شهر أكتوبر فقط، كلها تروي القصة ذاتها: “ادعى أنه مستثمر، وأخذ أموالنا، واختفى”. بعض المودعين أكدوا أن المتهمين استخدموا اسم عائلة الجمال، وهي عائلة ذات مكانة اجتماعية مرموقة، لا تمت لهما بصلة، فقط ليكسبا ثقة الناس ويظهرا بمظهر رجال الأعمال الشرفاء.
التحريات بدأت على الفور بقيادة اللواء محمد رضوان، مدير مباحث الأموال العامة بالقاهرة. فريق كامل من الضباط المتخصصين تتبع الحسابات البنكية والتحويلات المالية، وراجع سجل الشركة والمستندات المقدمة لهيئة الاستثمار.
ما اكتشفوه كان صادمًا، الشركة مسجلة قانونيًا، نعم، لكن نشاطها الفعلي تحول إلى توظيف أموال بالمخالفة الصريحة لشروط الترخيص، حيث تم جمع أموال من مواطنين دون أي سند قانوني، في خرق واضح للوائح هيئة الاستثمار وقانون البنك المركزي.
وبعد أيام من الرصد والتحقيقات، تم تحديد موقع المتهمين داخل دائرة قسم المعادي. في فجر يوم المداهمة، اقتحمت القوات مقر إقامتهم، لتجد الجمال وشقيقه وسط عشرات العقود والإيصالات البنكية، وأجهزة حاسوب تحتوي على بيانات مئات المودعين.
لم يُبدِ المتهمان مقاومة تُذكر، واكتفيا بالصمت لحظة القبض عليهما، وكأنهما كانا يدركان أن الخيط انقطع وأن اللعبة انتهت.
أمام النيابة، واجه المحققون المتهمين بالأدلة: التحويلات، الشكاوى، والتصاريح المزيفة. حاولا في البداية الإنكار، لكن المستندات كانت أقوى من أي دفاع.
النيابة العامة أمرت بحبسهما 15 يومًا على ذمة التحقيقات في القضية رقم 16116 لسنة 2025 أموال عامة المعادي، مع تكليف الأجهزة الأمنية باستكمال التحريات حول باقي المتورطين ومسار الأموال المختلسة.
التحقيقات الأولية أشارت إلى أن المتهمين أنشآ شبكة من الوسطاء لجمع الأموال من المواطنين مقابل عمولات، واستخدموا حسابات متعددة لتحويل المبالغ داخل مصر وخارجها، لإخفاء مصدرها الحقيقي.
كما أظهرت المستندات أن بعض الأموال تم توجيهها إلى استثمارات صورية وشركات واجهة، فيما تم تهريب جزء آخر بطرق غير قانونية.
القضية أثارت ضجة كبيرة في الأوساط الاقتصادية، ليس فقط لضخامة المبالغ التي تم جمعها، ولكن لأن المتهمين استخدموا تصريح هيئة الاستثمار كستار قانوني لعمليات النصب، وهي سابقة خطيرة لم تشهدها البلاد من قبل.
اليوم، وبينما يقبع الجمال وشقيقه خلف القضبان، تواصل النيابة العامة فحص البلاغات الجديدة التي تتدفق يومًا بعد يوم من ضحايا جدد، بينما تحاول فرق متخصصة تتبع الأموال المهربة لاستردادها.
وهكذا انتهت قصة رجل بدأ حياته “رجل أعمال ناجحًا” وانتهى “متهمًا في أكبر قضايا توظيف الأموال”، بعد أن ظن أن الأوراق الرسمية يمكن أن تُخفي الجريمة لكن كما أثبتت التحقيقات، القانون لا ينام، والعدالة وإن تأخرت لا تنسى أحدًا.








